بقلم : هشام ملحم
المتنبئون والمتخوفون من حرب أهلية جديدة، وكذلك المتحمسون لها، ينظرون إلى ارتفاع وتيرة وحدة العنف السياسي في البلاد، والاقبال الكبير على شراء الأسلحة النارية.
هل الولايات المتحدة في طريقها إلى حرب أهلية؟ هذا السؤال المقلق يُطرح منذ بضعة سنوات بصيغ مختلفة بعض الشيء، وأحيانا بإلحاح شديد، ازدادت وتيرة طرحه منذ دخول دونالد ترامب المعترك السياسي في 2016. ومنذ الاجتياح الدموي لمبنى الكابيتول في 6 يناير/كانون الثاني 2021 من قبل أنصار ترامب من أجل قلب نتائج انتخابات حرة ونزيهة. ازدادت التحذيرات صخبًا من أن البلاد تعيش في مناخ سياسي وأيديولوجي خطير مماثل للسنوات والأشهر التي سبقت اندلاع الحرب الأهلية في أبريل/نيسان 1861.
وفي الأيام والأسابيع التي تلت قيام عناصر من مكتب التحقيقات الفيدرالي – بأمر من قاض فيدرالي – بتفتيش مقر الرئيس السابق ترامب في مارا لاغو بولاية فلوريدا، ارتفعت حدة وشراسة السجال السياسي والتهديدات من قبل عناصر متطرفة، تدين بالولاء لترامب، بالانتقام من عناصر الإف بي آي (ما أدى إلى هجوم قام به مسلح متطرف ضد مكتب الإف بي آي في مدينة سينسيناتي، بولاية أوهايو، أدى إلى مقتله)، أو ضد أي قاض يحكم ضد ترامب. بعض المتطرفين من أنصار ترامب في الكونغرس وخارجه طالبوا بوقف تمويل مكتب التحقيقات الفيدرالي، وهو مطلب تعجيزي وعبثي.
أنصار ترامب، بمن فيهم أعضاء في مجلسي الكونغرس هاجموا الإف بي آي، وشككوا بصدقية التفتيش، وتساءلوا عما إذا قام مكتب التحقيقات الفيدرالي بإيعاز من الرئيس جوزيف بايدن بزرع الأدلة في مقر ترامب لفبركة التهم بأنه خبأ وثائق سرية للغاية تملكها الحكومة الفيدرالية لمنعه من الترشح للرئاسة مرة ثانية. بايدن نفى أن يكون على علم مسبق بقرار تفتيش مقر ترامب، وكل الأدلة تؤكد ذلك، كما أن الرئيس الأميركي لا يملك صلاحيات التدخل في قرارات قاض فيدرالي. السناتور الجمهوري ليندزي غراهام (Lindsey Graham)، المقرب من ترامب، حذّر من أنه إذا تمت مقاضاة الرئيس السابق “سوف تحدث أعمال شغب في الشوارع”.
هذه الهجمات ضد مكتب التحقيقات الفيدرالي – الذي كان الجمهوريون قبل حقبة ترامب يدافعون عنه بحماس – وتحذير السناتور غراهام، الذي قرأه الكثيرون على أنه تهديد مبطن، كلها دفعت بالرئيس بايدن إلى مهاجمة المتطرفين من أنصار ترامب في الكونغرس بحدة لافتة. قال بايدن في نشاط انتخابي بولاية بنسلفانيا، التي ستكون محورية في الانتخابات النصفية في نوفمبر/تشرين الثاني، “أنه أمر مقزز أن نرى هذه الهجمات الجديدة ضد الإف بي آي، وتهديد عناصره وعائلاتهم لمجرد قيامهم بوظائفهم،” قبل أن ينتقل إلى انتقاد ضمني للسناتور غراهام قائلا، “نشاهد على شاشة التلفزيون أعضاء بارزون في الكونغرس يقولون: إذا حدث هذا الأمر أو ذاك سوف نرى الدماء في الشوارع. بحق الجحيم، أين نحن؟”
التحذير من أن الولايات المتحدة تسير على طريق حرب أهلية ثانية يأتي من أصوات مختلفة، وتقف في مواقع متناقضة على الطيف السياسي والأيديولوجي. السؤال يطرحه مؤرخون وأكاديميون جديون، كما يناقشه سياسيون جمهوريون وديموقراطيون، إضافة إلى أن المتطرفين، وخاصة في اليمين السياسي والعنصري، إما يهددون بالحرب الأهلية أو يتوقعونها أو يتمنوها. ويتحدث هؤلاء عن مؤشرات عديدة تؤكد صحة مخاوفهم أو توقعاتهم، التهديدات باستخدام العنف ضد الأجهزة الحكومية (الإف بي آي ووزارة العدل) أو ضد القضاة والسياسيين المنتخبين. وقبل أسبوع تمت مقاضاة عضويين في ميليشيا يمينية بتهمة محاولة اختطاف حاكمة ولاية ميتشيغان، الديموقراطية غريتشين ويتمور (Gretchen Whitmer) قبل سنتين. وقال مسؤول في الإف بي آي إن المتهمين اعتبرا أن عدائهما للحكومة “يبرر لجوئهما إلى العنف”. ويشير هؤلاء إلى ازدياد وانتشار ظاهرة مخيمات التدريب لعشرات الميليشيات على استخدام الأسلحة النارية ضد الحكومة وأجهزتها، وإلى مشاركة عناصر من هذه الميليشيات – التي دافع عنها الرئيس السابق ترامب – في اجتياح مبنى الكابيتول.
المتنبئون والمتخوفون من حرب أهلية جديدة، وكذلك المتحمسون لها، ينظرون إلى ارتفاع وتيرة وحدة العنف السياسي في البلاد، والاقبال الكبير على شراء الأسلحة النارية، خاصة خلال جائحة كورونا، وارتفاع معدلات الجريمة في مختلف أنحاء البلاد، إضافة إلى ظاهرة القتل الجماعي، والتي تستهدف أحيانًا أقليات دينية أو عرقية (هجمات ضد الأميركيين من أصل أفريقي أو ضد اليهود أو المسلمين أو الآسيويين) التي ارتفعت معدلاتها بشكل صارخ في السنوات الماضية (بين سنتي 2010 و2020 ازدادت نسبة الأميركيين الذين قتلوا بسلاح ناري بحوالي 43 بالمئة)، وازدياد عدد الأميركيين الذين يقولون أنهم يمكن أن يستخدموا العنف لأسباب سياسية كأدلة على الانزلاق التدريجي للبلاد إلى حرب أهلية جديدة. وللأميركيين ولع قديم بالأسلحة النارية، والولايات المتحدة هي من بين ثلاثة دول فقط في العالم ينص دستورها على حق المواطن اقتناء الأسلحة النارية. وبينما وصل عدد الأميركيين إلى أكثر من 332 مليون نسمة، وفقا لآخر احصاء سكاني، إلا أن عدد الأسلحة النارية التي يملكونها يصل إلى حوالي 400 مليون قطعة سلاح.
كما يستخدم هؤلاء، وأحيانا بشكل انتقائي، استطلاعات الرأي التي تشير إلى ازدياد عدد الأميركيين الذين يتوقعون حدوث حرب أهلية، أو الذين يقولون أنهم مستعدون لاستخدام العنف لتحقيق أهداف سياسية. وجاء في استطلاع أجرته جامعة كاليفورنيا–دايفز، في شهر يوليو/تموز، وشارك فيه 8600ونشرته مجلة ساينس، أن نصف المشاركين في الاستطلاع (50.1) بالمئة “يعتقدون أنه ستحدث حرب أهلية في الولايات المتحدة في السنوات القليلة المقبلة”.
ولكن أخطر ما تكشفه هذه الاستطلاعات هو انحسار ثقة المواطنين بالنظام والمؤسسات الديموقراطية في البلاد، ووجود أقليات هامة في المجتمع تؤيد استخدام العنف لتحقيق أهداف سياسية معينة، وتعلق بعض هذه الأقليات بنظريات المؤامرة، والطروحات العنصرية والشوفينية التي تنطلق منها هذه النظريات، ومن بينها “نظرية الاستبدال الكبير”، التي يؤمن بها دعاة “القومية البيضاء” أو المؤمنون بتفوق العنصر الأبيض. ويقول دعاة هذه النظرية أن هناك مسؤولين حكوميين وقوى سياسية أميركية مؤلفة من الديموقراطيين واليساريين الذين يسعون إلى “استبدال” السكان أو الناخبين البيض بمهاجرين من أعراق أخرى لزيادة عدد الناخبين الملونين الذين يؤيدون تقليديًا المرشحين الديموقراطيين.
الكاتب تيم ألبرتا (Tim Alberta) نشر مقالًا في مجلة ذي أتلانتك عقب تفتيش مقر الرئيس السابق ترامب، وردود الفعل المتشنجة ضد عملية التفتيش، والتهديدات التي صاحبتها، قال فيه، إن “البلاد تسير باتجاه مستوى من العنف السياسي لم نشهده منذ الحرب الأهلية”. وخصص ألبرتا، الذي رافق وغطى ظاهرة ترامب السياسية منذ سنوات، بقية مقاله لشرح وتحليل الاستقطابات السياسية وميل عدد كبير من الأميركيين، وخاصة مؤيدي الرئيس السابق ترامب، إلى “شيطنة” كل من صوّت ضد ترامب بالمطلق ليوضح عمق المأزق التاريخي الذي وصل إليه المجتمع الأميركي.
هناك في المقابل عدد هام من المؤرخين والمحللين والأكاديميين والسياسيين الذين يرفضون طروحات اقتراب الولايات المتحدة من حرب أهلية ثانية، ويقولون أن النظام الديموقراطي الأميركي، على الرغم من النكسات التي تعرض لها مؤخرًا، ومن بينها ظاهرة دونالد ترامب، وتسامح قيادات الحزب الجمهوري مع التيار العنصري الذي يهيمن على القاعدة الجمهورية، إضافة إلى اجتياح الكابيتول، لا يزال قويًا وقادرًا على اجهاض أي محاولات لخلق اضطرابات عنيفة في البلاد. ويقول هؤلاء أن ظاهرة العنف السياسي في البلاد ليست جديدة، ويشيرون إلى أعمال العنف والشغب التي صاحبت حركة الحقوق المدنية والحركة المناوئة للحرب في فيتنام في ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي، والتي نتج عنها احراق أحياء بكاملها في مدن أميركية عديدة من بينها بيرمنغهام (ولاية آلاباما) ونيويورك (ولاية نيويورك) ولوس انجلوس (كاليفورنيا) وشيكاغو (إلينوي) وتامبا (فلوريدا) وسينسيناتي (أوهايو) وأتلانتا (جورجيا) وديترويت (ميتشيغان) وغيرها. بعد اغتيال قائد حركة الحقوق المدنية القس مارتن لوثر كينغ (Martin Luther King) في 1968، انفجرت التظاهرات وأعمال الشغب في 110 مدينة أميركية، ولكن النظام الديموقراطي الأميركي، على الرغم من هذه الضغوط الضخمة والعنف الذي صاحبها لم ينزلق إلى حرب أهلية جديدة.
ما يجعل تجاهل سجال “الحرب الاهلية” مستحيلًا، هو أنه بدأ بخلق أدبيات جديدة تفرض على أي محلل أو مراقب موضوعي أخذها على محمل الجد، من بينها كتاب للباحثة باربرة أف. والتر (Barbara F. Walter) بعنوان “كيف تبدأ الحروب الأهلية وكيف يمكن وقفها“. وبعكس معظم المؤرخين الذين يقولون أن كل حرب أهلية لها خصوصياتها، ترى الباحثة والتر أن هناك نمط مشترك يمكن استخدامه لتوقع انزلاق دولة إلى حرب أهلية. الدول المرشحة لحروب أهلية ليست تلك التي تعيش في ظل نظام ديموقراطي مستقر، أو تلك التي تعيش في ظل نظام متسلط، بل تلك الدول المتأرجحة في الوسط والمعرضة للاضطرابات والعنف.
هذه المجتمعات تبدأ مسيرتها نحو الحرب الأهلية عندما يفقد عدد هام من المواطنين حتى في دولة ديموقراطية الأمل في قدرة نظامهم على حل مشاكلهم، وعندما يقومون بتنظيم أنفسهم في تجمعات أو حركات أو أحزاب سياسية، ولكن وفقًا لمعطيات وهويات أثنية أو دينية. وتشير والتر – وغيرها من المحللين- إلى خطورة ظاهرة جنوح الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة إلى معانقة “فلسفة” القومية البيضاء أو نظرية تفوق العنصر الأبيض، والذي وصل إلى ذروته مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، واستمرار نفوذه القوي في قاعدة الحزب الجمهوري حتى بعد هزيمته في الانتخابات الأخيرة.
نظام الحزبين خدم الولايات المتحدة لوقت طويل، ولكنه اليوم أصبح نظاما مبنيًا على تجمعات أثنية أو هويات ترى نفسها نقيضًا لهويات أخرى في المجتمع. الجمهوريون بأكثريتهم الساحقة هم من المواطنين البيض الذين يسكنون بمعظمهم في المدن والبلدات الصغيرة وفي الأرياف. الديموقراطيون بمعظمهم يسكنون المدن الكبرى الواقعة على الساحلين الشرقي والغربي للبلاد، إضافة إلى مدن أخرى مثل إلينوي وديترويت في وسط البلاد. الحزب الديموقراطي يضم تجمعات وهويات أثنية كبيرة مثل الأميركيين من أصل افريقي، والمواطنين المنحدرين من مهاجرين قدموا من آسيا وأميركا اللاتينية، كما يضم هذا الحزب شريحة كبيرة من النساء في البلاد، إضافة إلى جماعات أخرى مثل المثليين وغيرهم. في ظل هذه الاستقطابات، والسجال السياسي المتشنج وسهولة “شيطنة” الطرف الأخر، يصبح مفهوم “التسوية السياسية” مرادفًا للاستسلام.
الباحثة والتر، وغيرها من المحللين الذين يحذرون من انزلاق الولايات المتحدة إلى حرب أهلية، لا يتحدثون عن سيناريو مماثل لما حدث بين أبريل/نيسان 1861 وأبريل/نيسان 1865، حين انتهت الحرب الأهلية باستسلام الولايات الكونفدرالية الجنوبية التي هزمت في الحرب، على يد جيش الاتحاد الفيدرالي الشمالي بعد مقتل 750 ألف جندي في الحرب التي كانت ولا تزال الحدث الأهم في تاريخ الولايات المتحدة. وهنا يجب أن ننوه بأن الحرب الأهلية الأميركية جرت وفقًا لانقسامات جغرافية محددة بين ولايات الاتحاد الفيدرالي في الشمال (المتقدمة صناعيًا وتقنيًا)، وبين ولايات الكونفدرالية الجنوبية (الزراعية والأقل تقدمًا من الناحية التقنية)، والتي انفصلت عن الاتحاد الفيدرالي لكي تحافظ على مؤسسة العبودية، التي رفضها الشمال.
الحرب دارت بين جيشين نظاميين لكل منهما قيادة واضحة، ومعظم المعارك، مع استثناءات قليلة جرت فوق أراضي الولايات الجنوبية. لا أحد يتوقع انقسام القوات الأميركية المسلحة إلى جيشين متقاتلين، أو انفصال بعض الولايات عن الاتحاد الفيدرالي، على الرغم من ارتفاع بعض الأصوات التي تنادي مثلا بانفصال ولاية تكساس الكبيرة، ولكن الانفصال الفعلي صعب للغاية، قانونيًا وسياسيًا واقتصاديًا، وليس خيارًا جذابًا لمعظم الولايات.
ولكن كيف يمكن أن تحدث حرب أهلية مختلفة في الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين؟ ترى الباحثة والتر، وغيرها من المتخوفين من هذا المصير، أن الولايات المتحدة سوف تشهد المزيد مما شهدته وتشهده حاليا، أي ازدياد وتيرة أعمال العنف، وأن تشمل محاولات لاغتيال المسؤولين، وخاصة في أجهزة مثل الإف بي آي ووزارة العدل، واحتلال مبان أو أماكن حكومية، أو إعلان مناطق صغيرة “ذات سيادة شعبية”، أو إعلان حالة تمرد أو عصيان في مناطق ريفية أو بلدات صغيرة لا يتعاون المسؤولون المحليون فيها مع السطات الفيدرالية على سبيل المثال. حالات التمرد هذه يمكن أن تقوم بها أكثر من ميليشيا وفي أكثر من منطقة في الوقت ذاته، واستهداف بنى تحتية من الصعب حمايتها، واحتلال مراكز حكومية وأخذ موظفيها رهائن، الأمر الذي سيفرض على السلطات الفيدرالية في واشنطن خيارات صعبة.
وكما يتبين من التخطيط لاقتحام مبنى الكابيتول، سوف تلعب شبكة الانترنت ووسائل الاتصال الاجتماعي، خاصة شبكات الاتصال التي تقع خارج الشبكات المعروفة أو الشرعية، دورًا حيويًا في تنظيم نشاطات هذه المنظمات والتجمعات اليمينية والعنصرية المتطرفة. وبدلًا من المعارك الكبيرة التي كان يشارك فيها عشرات الآلاف من المقاتلين في الحرب الأهلية، فإن معارك الحرب الأهلية في القرن الحادي والعشرين، إذا تحققت المخاوف والتنبؤات القاتمة، سوف تكون عبارة عن أعمال تمرد وعصيان محدودة في حجمها وتأثيرها.
ما هو واضح ومقلق للغاية، هو أن الانقسامات والاستقطابات السياسية والأيديولوجية، وتمسك الكثير من المواطنين بهوياتهم الاثنية والدينية والقومية الضيقة، وجنوح أحد الحزبين الرئيسيين في البلاد إلى الشوفينية والعنصرية، سوف يفرض على النظام الديموقراطي الأميركي – حتى ولو لم تنزلق البلاد إلى حرب أهلية جديدة – تحديات سياسية جديدة وخطيرة لم تواجهها الولايات المتحدة منذ الحرب الأهلية.
----------------------------------------------------------
هشام ملحم هو باحث غير مقيم في معهد دول الخليج العربية في واشنطن، وكاتب عمود ومحلل سياسي.