DELMON POST LOGO

النعيمي .. لايزال بيننا حاضراً ..

بقلم محمد حسن العرادي

في مثل هذا اليوم الأول من سبتمبر 2011 أغلق المناضل البحريني المهندس عبدالرحمن النعيمي جفنيه للمرة الأخيرة وغادر هذه الدنيا جسداً طاهراً وروحاً هائمة بحب الوطن إلى حيث المستقر الأبدي والمقر الأخير في الملكوت الأعلى عند مليك مقتدر.
الراحل عبدالرحمن النعيمي رحمه الله اختار الوقوف إلى جانب الفقراء والمساكين وهاجر في سبيل الله ليقول كلمة الحق ويصدح بها يوم كان السكوت سمة سائدة في المجتمع، لكن أبا امل رفض الصمت وإختار الإصطفاف إلى جانب شعبه مدافعاً عن حقوقه ومكافحاً ضد الاضطهاد وكل ما كان يراه ظلماً وإنتقاصاً لحقوق المواطنين.
حمل البُندقية عندما كان الآخرون لا يكادون يعرفون الإمساك بالقلم، عاش شظف العيش بين جبال ظفار وأوديتها الخضراء يزرع الأمل في نفوس أبناء الخليج العربي ويغرس في قلوبهم الإيمان بأن الوطن يتسع للجميع، لم يترفع على أحد ولم يُفاخر عليهم كونه مهندساً تخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت، بل كان قمة في التواضع والعطاء الانساني والتضحية،
نذر نفسه وقدم وقته وراحته وأمن أهل بيته قُرباناً للدفاع عن الحقوق وقضية الحرية التي آمن بها والعدالة التي تطلع لها وهاجر اليها مناضلاً أممياً صُلبا يمتشق السلاح والقلم والتضحيات ليحقق الحُلم الذي راوده منذ تعلم أول حروف الهجاء والوطنية مع رفاق دربه في حركة القومين العرب من أيقونات العمل الوطني وحركات التحرر الثورية العربية.
وحين إنتكست الثورة المسلحة التي قادتها الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي المحتل تحت وقع الضربات البريطانية والعدوان الإيراني الشاهنشاهي، وتقرر الإنفصال التنظيمي بين إقليم البحرين وإقليم عُمان، واصل النعيمي تصديه لحمل الأمانة من جديد، فأصبح الأمين العام للجبهة الشعبية في البحرين متمسكاً بذات المبادئ القومية والوطنية التي آمن بها منذ أيامه الأولى في النضال.
حمل روحه على كفيه واستقبل على مدى عقودٍ ثلاثةٍ من الزمن وأكثر أجيالاً من المناضلين المُنخرطين في طريق البحث عن الذات الحالمين بالعدالة والمساواة، وسعى إلى تعزيز المنهاج الفكري والبناء العقائدي لكل من التحق بصفوف الجبهة أو أي من منظماتها الجماهيرية، في مختلف المجالات السياسية؛ العمال، المرأة، الشباب والطلبة، وكان القائد والقدوة الذي لم يتأخر عن أول الصفوف أبداً.
كان عبد الرحمن النعيمي يتعامل مع الجميع كواحد منهم، تجلس في حضرته فلا تشعر بأنه يميز نفسه عنك، لا يتكبر عليك ولا تجد في تعامله معك صيغة الأوامر الجافة، ولا تسمع في كلماته صيغة منفعلة، ورغم الحسم البادي على وجهه في المواقف التي تستدعي ذلك، إلا إن ابتسامته لم تكن تفارق محياه أبدا، ودوداً بشوشاً فاتحاً ذراعيه لاستقبال ضيوفه من مختلف البلدان والمناطق، آناء الليل والنهار في منزله بإحدى ضواحي دمشق بالقرب من مكاتب وزارة التربية والتعليم العالي السورية.
تعرفت على المُعلم عبد الرحمن النعيمي بشكل مباشر باكراً في مخيم الشهيد محمد بونفور الذي كان يُنظم في مدينة اللاذقية على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، كان ذلك في اوائل الثمانينات من القرن العشرين، هناك تعلمت منه ومن رفاق وأصدقاء وزملاء آخرين أول دروس النضال والتضحية الوطنية، تم توزيع المشاركين في المخيم على ثماني خيام، حملت كل خيمة أسماً خاصاً بها، وتم توزيع المسئوليات فيما بين أفراد المخيم بين حراسة وتثقيف ورياضة واعلام وادارة.
كان من نصيبي أن أكون رئيساً للجنة الإعلامية في المخيم، وهناك توليت أول مهامي كرئيس تحرير لمجلة يومية، كنا نصدرها لتغطية أنشطة المخيم اليومية، لم نكن نمتلك آلات طباعة أو أجهزة كمبيوتر، فكنا نخط مقالات وموضوعات المجلة على أوراق A4 أحضرتها إدارة المخيم، وبعد اكتمال تصميم وتنسيق وإخراج المجلة، نقوم بأرسال العدد إلى مدينة اللاذقية القريبة منا لعمل 8 نسخ مصورة ، ويتم توزيعها بمعدل نسخة واحدة لكل خيمة من خيام المخيم الموزعة بين خيام الشباب وخيام الفتيات، وهكذا تعلمت واكتسبت أول تجاربي في العمل الإعلامي.
كُنت عضواً ناشطاً في الإتحاد الوطني لطلبة البحرين فرع القاهرة منذ التحقت بالدراسة الجامعية اكتوبر 1976، وبعد أن منعت السُلطات الأمنية في البحرين مئات من القيادات الطلابية من السفر في صيف 1977، وكان من بينهم كامل اعضاء مجلس ادارة فرع القاهرة، مارست السلطات الامنية المصرية تضييقاً اضافياً على الإتحاد فمنعتنا من استخدام اسم الاتحاد الوطني لطلبة البحرين فرع القاهرة، وتم إجبارنا على إعادة تسمية الفرع الى رابطة، وهكذا عُدنا الى التسمية القديمة رابطة طلبة البحرين بالقاهرة، ولم نتمكن من عقد جمعية عمومية للفرع طوال عامين لاحقين، ولجانا الى إدارة العمل النقابي والطلابي فالفرع من خلال لجنة قيادية ثنائية شارك في الأولى الأستاذة نورة بوحجي والأستاذة مريم الموسى، بينما شارك في اللجنة الثانية الأخ العزيز حسن العز رحمه الله والاخ العزيز أحمد جاسم.
وعندما عُقد المؤتمر العام الثالث للاتحاد الوطني لطلبة البحرين في بغداد فبراير 1979، أصبح حضور المناضل عبدالرحمن النعيمي قوياً في مسيرتنا الطلابية، فقد شكل ذلك المؤتمر بداية تحول الأغلبية لصالح المناصرين لتيار الشعبية، وتسببت المنافسة على منصب الرئاسة الى تمديد مدة انعقاد المؤتمر لثلاثة أسابيع حتى تم التوافق على توزيع المناصب في الهيئة التنفيذية للاتحاد واصبح الأستاذ محمد الجودر رئيساً للهيئة التنفيذية خلفاً للأخ حسن العالي، وقد كان لي شرف المشاركة في هذا المؤتمر كأحد أعضاء وفد فرع القاهرة، وبعد عودتنا إلى القاهرة تم اختياري لرئاسة الجمعية العمومية التي أعادت الحياة إلى فرع القاهرة تحت إشراف زميلنا العزيز الأخ محمد فاضل العبيدلي الذي تم انتخابه عضواً في المجلس الإداري للاتحاد في المؤتمر العام الثالث ببغداد.
لكن مشاركتي في المؤتمر العام الرابع للاتحاد الوطني لطلبة البحرين المنعقد في مدينة دمشق فبراير 1981 كان الحد الفاصل في العلاقة مع الراحل عبدالرحمن النعيمي رحمه الله، هناك تعرفت بصورة أقرب على هذه القامة الوطنية العالية الاستثنائية، كُنا نخرج من مقر الإتحاد فرع دمشق مشياً على الأقدام لزيارته في منزله القريب، حيث تعرفنا على ابنته البكر الاخت العزيزة أمل النعيمي التي كانت لا تزال طالبة مدرسة وأبناءه خالد ووليد، لكن أجمل وأعز ما تعرفنا عليه في تلك الحقبة، كانت والدة الجميع الرائعة الأم الصابرة مريم النعيمي أطال الله عمرها وحفظها من كل سوء ومكروه فقد كانت مثالاً للطيبة وعنواناً للمحبة والحنان لنا جميعاً ومنذ تلك اللحظة أحسست بها أماً رؤوماً لي ولغيري من الطلبة.
أصبح عبدالرحمن النعيمي رحمه الله عاملاً مهماً ومؤثراً في حياتي ومسيرتي النقابية والسياسية، وعلي يديه تعلمنا حُب الوطن الذي اعتبره البعض جريمة نكراء، وهكذا تمت ملاحقتنا في العديد من البلدان وخضعنا للمراقبة والملاحقات الأمنية وكأننا قد ارتكبنا جرماً ليس يغتفر .
عبدالرحمن النعيمي كان مدرسة في كل شيء ويقينا فإن محبته لم تهتز ولم تُغادر قلبي منذ تعرفت عليه، وأستطيع القول بكثيرٍ من الثقة بأن علاقتي المباشرة معه التي استمرت أكثر من 25 عاماً، لم تشهد الا كل خيرٍ واهتمام ومحبة متبادلة، كثيرة هي المواقف التي لم يحن الوقت لكشفها والحديث عنها، فقد استمر التواصل مع الراحل النعيمي حتى بعد عودتي الى الحرين في 14 يونيو 1984، وهنا أذكرُ أنه رحمه الله ، كان قد رتب لي الإقامة في منزل ابنته العزيزة امل في مدينة أبو ظبي 1983 بعد تخرجي من القاهرة مباشرة، حيث كنت احد المطلوبين في البحرين بعد غياب 4 سنوات من الغربة والترحال،
وهكذا مكثت معهم معززاً مكرماُ طوال أكثر من شهر، بعدها رحلت إلى الشارقة برفقة عدد من الرفاق والأصدقاء البحرينيين المغتربين حيث ابتعدت عن الاضواء والنشاط النقابي الطلابي وكافة شئون السياسة ما يقارب العام الكامل تمهيداً لعودتي للبحرين والتي انتهت بالسجن رغم كل تلك الاحترازات والابتعاد.
النعيمي رحمه الله لم يكن معلماً وطنياً وسياسياً فحسب بل كان والداً حانياً يخاف علينا ويوجهنا في مختلف شئون الحياة، ويخطئ كل من يعتقد أن بإمكانه أن يكون وصياً على تراث عبدالرحمن النعيمي النضالي والإنساني، كما يخطئ كل من يريد أن يحتكر العلاقة مع عبدالرحمن النعيمي لنفسه او لحزبه او لتياره، ويخطئ مجدداً كل من يعتقد للحظة أن من حقه توزيع المقامات وتحديد مستويات العلاقات مع هذا الراحل العزيز على الجميع حتى اولئك الذين لم يكونوا ضمن تيار الجبهة الشعبية في البحرين.
في ذكرى وفاته التي تصادف اليوم الخميس الأول من سبتمبر 2022 ، نُجدد محبتنا للقائد عبدالرحمن النعيمي واعتزازنا بعلاقتنا الخاصة به، ونترحم عليه، وستظل صورته الماثلة أمامنا وصوته الصداح يعلوا بيننا ابداً ، حيث لاتزال عيونه المفتوحة تراقبنا وتشير علينا لنسلك طريق الحق الذي غادره كثيرون؛ اغلبهم أكتفوا بالكلام عن العمل، وارتضوا بالذكريات عن صياغة المستقبل، لكن صورته وهو مسجى في سريره الطبي في بيته بقرية قلالي بمحافظة المحرق طوال أكثر من خمس سنوات مرسومة في القلب والوجدان، عبدالرحمن انتظر طويلاً في سرير الوداع ليتيح لنا ولكل من عرفه وأحبه الوقت اللازم لوداعه، والتعاهد معه على السير على دربه الذي اختطه لنفسه ولنا.
النعيمي كان مثالاً للاعتدال وعنواناً للنضال العربي لتحرير فلسطين، نقطة التقاء وتوافق بين جميع حركات التحرر العربية، ومتحدثاً باسم الجميع في المهرجانات التضامنية مع القضايا العربية والانسانية العادلة وعلى راسها قضية فلسطين التي نذر نفسه من أجلها، كان فلسطينياً اكثر من اي فلسطيني آخر ولبناني وعماني ومغربي وسوري اكثر من أهل تلك البلاد، عروبي الانتماء، لا يرتضي عن الحق بديلا مهما كانت كلفته غالية وثمنه باهظاً.
عبدالرحمن النعيمي كان العنوان الذي تلتقي عنده الكثير من المعادلات الثقافية، الأدبية، المهنية، الحقوقي، السياسية، وقد شكل في المنفى الحاضنة الرئيسية للعديد من المناضلين وفي منزله بدمشق تعرفنا على رفاق اعزاء عبدالنبي العكري، المرحوم احمد الخياط، الأستاذ نوح عبدالغفار، الاستاذ محمد المرباطي وكثيرون مروراً عابرا او زيارة عمل واستقر بهم المقام في هذا الدرب الذي لا نزال نسير فيه كل حسب تجربته وخبرته.
لم يعرف الأحقاد ولم يحمل في نفسه بغضاً لأحد قريبا كان او بعيداً، متفقاً كان معه او مختلفا، عبد الرحمن النعيمي رجل طاهر القلب نقي السريرة، نقش في قلوب الناس محبته وكسب احترامهم لأنه كان القائد المتواضع الذي يمارس عمله اليومي بكل جدارة واقتناع وهدوء وسكينة، حتى اذا رحل اكتشفنا جميعا حجم الخسارة التي فقدناه، والجوهرة التي لم نحافظ عليها ونداريها كما ينبغي، ليس على مستوى البحرين فحسب بل على مستوى الوطن العربي.
في الذكرى الحادية عشرة لرحيله المُر والمُحزن نُجدد العهد والوعد بأن نبقى أوفياء لمبادئه مخلصين لإرشاداته وتوجيهاته، فنحن لم نعرف الجحود ولم نتربى على النكث بالعهود، وستظل سيرة عبد الرحمن النعيمي زاداً ينير لنا الطريق وزواداً يزرع الأمل في نفوسنا ويقودنا في المنعطفات، فلقد أصبح بو أمل أيقونة النضال وبوصلة تفصل بين الحق والضلال، رحمك الله أيها القائد الفذ وتغمدك بعفوه وغفرانه ورحمته الواسعة ورضوانه الرحيم، وجعلك بين الخالدين أبد الدهر.