DELMON POST LOGO

بيروت 2006 .. إنتصار إرادة وصمود شعب

بقلم محمد حسن العرادي

بعد إنتظارٍ وصبرٍ وقلق طال عدة أيام في مدينة دمشق العريقة، أنجز الراحل عبدالرحمن النعيمي ( الذي يصادف يوم بعد غدا ذكرى وفاته الحادية عشر ) ترتيبات العبور إلى بيروت الرابضة تحت القصف والعدوان الصهيوني، أعصاب أعضاء الوفد البحريني مشدودة، وأخبار العدوان الصهيوني الغاشم على لبنان تشغل بال الجميع، وتسيطر على الأخبار في مختلف المحطات التلفزيونية العربية والأجنبية، لكن الوفد البحريني المكون من عشرة رجال وامرأة كان ينتظر العبور إلى بيروت رغم كل ما قيل عن خطورة الوضع ومفاجئات الطريق، الرحلة إلى بيروت لاتستغرق أكثر من ساعة واحدة انطلاقاً من دمشق، لكن خط السير اختلف في هذه الرحلة بسبب الإحترازات الأمنية.
أنجز المهندس عبدالرحمن النعيمي كافة ترتيبات العبور بالترتيب مع رفاقه ومعارفه داخل لبنان التي قضى فيها ردحاً من الزمن أيام المنفى وعرف أصغر تفاصيلها وزواريبها ويرتبط مع سياسييها وأحزابها وتياراتها السياسية والفكرية بأفضل العلاقات، وفي الصباح الباكر من يوم الأحد الموافق 13 اغسطس 2006 صعد أعضاء الوفد إلى الميكروباص السوري الذي سيقلنا إلى بيروت وسرعان ما تحركنا ناحية الحدود اللبنانية من جهة طرابلس، كانت المدن والقرى السورية المحاذية للحدود اللبنانية متحفزة ومستعدة لإستقبال المزيد من اللبنانيين المهجرين جراء العدوان الصهيوني والذين بدأوا يتقاطرون على المدن السورية التي فتحت ذُراعيها لهم وإحتضنتهم بكل محبة وحنان.
سارت الحافلة البيضاء تتهادى بنا في طريق غامضٍ وطويلٍ لم نكن نعرف نهايته ومفاجئاته، لكن الجميع كان محتسباً راضياً ومستعداً لكل ما ينتظره من مخاطر الحرب والعدوان، وحين إجتزنا الحدود السورية بدأت معالم الطريق تتغير وبان حجم الدمار وأثر القذائف والقصف الصهيوني التي تساقطت كالمطر الحمضي على الطرقات المتهالكة اصلاً، فدمرتها وجعلتها أكثر بلاء وخراباً ، بل وأخرجت اغلبها من الخدمة، بدى الطريق أمامنا طويلا ومتعرجاً مليئاً بالحفر ومخلفات القصف الصهيوني المعربد في ظل الصمت العربي والعالمي المريب، والدمار ينتشر على كافة مناحي الحياة جراء انتشار بقايا القذائف والصواريخ المعتدية.
كان سائق السيارة جسوراً، حاذقاً وماهراً في السير بين الحفر التي ملئت الشارع، وكانت خيالات رُكاب تلك الحافلة الصغيرة تسرحُ بعيداً متوجسة مما ينتظرها من مصيرٍ لم تتضح معالمه بعد، أيدينا على قلوبنا ونحن نحاول أن نخفف من التوتر الذي يراودنا من خلال الخوض في أحاديث سياسية متشعبه، كلما تجاوزت الحافلة حفرة كبيرة وسط الشارع، أو وقفت أمام حاجز تُرابي تكور في وسط الطريق، لكن الصمت كان سيد الرحلة والمهيمن الأول على معظم أوقاتها، رغم كل محاولات التماسك والصمود التي سعينا جميعاً للظهور بها، ربما كنا نطمئن بعضنا بعضاً بأننا سنصل الى بيروت بسلام.
استغرقت الرحلة من دمشق الشام الحاسمة إلى بيروت المقاومة حوالي تسع ساعات كاملة، كان الموت خلالها رفيقاً والقلق صديقاً دائماً، وعلى الطريق ترى الجُسور المُحطمة جراء القصف الصهيوني الذي لم يكن يخوض حرباً بقدر ما كان يقود عدواناً بجحاً يستهدف تدمير البنية التحتية والحجر والبشر، والدفع باللبنانيين إلى اليأس والقنوط وفقدان الأمل، وربما كان ذلك بهدف الضغط على المقاومة الإسلامية وإجبارها على الرضوخ والإستسلام، من خلال تأجيج الشارع والجمهور ضدها، لكن ذلك لم يحدث أبداً.
كان اللبنانيون متماسكون بشكل مذهل ومُشرف ويدعو للفخر، مترفعون على الجُراحات عاضين على الألم بصبر وايمان منقطع النظير، كنا نلمس ذلك من خلال ردود أفعال كل من يقابلوننا على الطريق، الحياة كانت تسير بشكل قهري، لكن الأمل يشع في عيون كل من قابلناهم رغم الألم الذي يسكن قلوبهم والخوف الذي يعيشون فيه من المجهول الذي ينتظرهم.
في أول ساعات المساء إقتربنا من العاصمة بيروت الصامدة الصابرة والمدمرة جسورها وعمارات كثيرة في أحياءها وضواحيها، لاسيما الضاحية الجنوبية التي تركز عليها القصف الصهيوني فيما يشبه حرب إبادة ودمار، ومع تسلل الظلام إلى ليل لبنان الطويل بدت بعض الأنوار الخافته تشع من بعيد كأنها مصممة على إرسال وميضٍ من النبض والأمل والحياة، إخترقت حافلتنا الطريق وسط الظلام الدامس وأخذت تسير ببطئٍ وحذرٍ شديد خوفًا من المجهول الذي قد يكون متربصاً على الطرقات في إي منعطف ومسار، لكن بصيص الأمل كان يراودنا ويزداد إرتفاعاً كلما إقتربنا من قلب بيروت الذي لم يتوقف نبضه أبداً.
أخترقت الحافلة الصغيرة التي تضمنا شوارع بيروت الى أحد الفنادق الصغيرة التي تم ترتيبها لنا بمعرفة المناضل الراحل عبدالرحمن النعيمي، بالقرب من صخرة الروشة على ساحل بيروت، كان ذلك اختياراً ذكياً من المرحوم أبو خالد، فلقد أشعرنا المكان بأن الشعب اللبناني صامد كتلك الصخرة التي تتكسر عليها أمواج البحر العاتية، تماماً كما كانت العاصمة بيروت صامدة وعلى وقع صبرها وصمودها تتكسر المؤامرات وتندحر البوارج الحربية الصهيونية المعتدية المترصدة لأي شيء يتحرك أمامها بالمدفعية الثقيلة والقنابل المدمرة والقاتلة.
عندما وصلنا إلى الفندق الرابض على تلة صغيرة في إحدى حواري بيروت، كنا كمن وصل إلى بيته بعد طول غياب وسفر بعيد، بدأ الأمان يتغلغل الى أجسادنا المتعبة والقلقة بعد عناء كبير طوال الوقت الذي كنا فيها على الطريق نصارع القدر وننتظر نتائجه، وسرعان ما دارت عجلة الحياة من جديد، بدأنا نتلقف الأخبار ونتابع المستجدات من خلال الرفاق والأصدقاء الذين انتظرونا وبدأوا في التوافد على فندقنا الصغير منذ لحظة الوصول.
بدأنا نتفقد بعضنا البعض وكأننا نطمئن على أن أحداً من أعضاء الوفد لم يتأذى ولم يصاب بشظية طائشة أو قذيفة صهيونية غادرة، ورغم أن المساء كان قد أرخى سدوله على ليل بيروت المتوثب، إلا أن الراحل عبدالرحمن النعيمي كان يطمئن علينا واحداً واحداً، تماماً كما يفعل الأب الحاني الذي ينتظر عودة أبناءه بقلقٍ الى البيت، قبل ان يهجع إلى مرقده الآمن ويطمئن قلبه، كان الوفد البحريني المكون من عشرة رجال وامرأة واحدة في قمة الإنسجام والتوافق رغم إختلاف المشارب الفكرية والسياسية والانتماءات المذهبية المتعددة التي يمثلها عناصره، كنا وفداً يُمثل البحرين بكل أطيافها وتلاوينها وتياراتها السياسية.
كان لقيادة الوفد من قبل المهندس عبدالرحمن النعيمي رحمه الله رونق خاص وتاثير ساحر يبعث على الاطمئنان والثقة، وقد أضفى ذلك على الجميع الشعور بالوحدة والانصهار وتحمل المسئولية الوطنية، لم نشعر بأي تباين أو إختلاف بيننا، جميعنا إخوة بحرينيين جئنا متضامنين مع شعب لبنان، وكأننا فريق كرة قدم وطني مكون من 11 لاعباً جاءوا يدافعون عن اسم بلادهم ويسجلون حضورها في ساحة التضامن العربي مع الشعب اللبناني المقاوم الذي كسر هيبة وجبروت وطغيان الإحتلال والعدوان أكثر من مرة، ومسح الى الأبد أسطورة الجيش الذي لا يقهر.
تكون الوفد البحريني المتضامن من المهندس عبدالرحمن النعيمي - جمعية وعد، الأستاذة زهراء مرادي - جمعية الإخاء، السيد إبراهيم كمال الدين - جمعية وعد، السيد سعيد الماجد - جمعية الوفاق، السيد أحمد العلوي - جمعية الوفاق، السيد رضوان الموسوي - جمعية أمل، الأستاذ راشد الجودر - جمعية الوسط الإسلامي، الأستاذ محمود حميدان - جمعية التجمع القومي، الأستاذ عباس البحاري جمعية المنبر التقدمي، الأستاذ علي غنام جمعية المنبر التقدمي والأستاذ محمد حسن العرادي الجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني، إحدى عشر روحاً وجسداً على قلب رجل واحد يحب وطنه ويضحي من أجل رفعته وسموه ويحفر اسم البحرين في سجل الخالدين الواقفين إلى جانب الحق في وجه العدوان والصلف الصهيوني.
كانت الأنباء التي تصلنا مزيجاً من التوجس والأمل، توجس من إستمرار العدوان الصهيوني وتدحرجه لمدى أبعد وأكثر شراسة، وأمل بدى يلوح في الأفق بوقف وشيك لاطلاق النار، وبعد أن استقر بنا المقام وبينما نحن في الساحة الصغيرة للفندق الصغير مع بعض اللبنانيين من الرفاق والأصدقاء وإذا بالخبر الذي ينتظره الجميع، الإعلان عن وقف إطلاق النار اعتباراً من منتصف ليل الأحد 13 أغسطس 2006، وفي انتظار أن يتاكد الخبر أطل علينا وعلى العالم السيد نصر الله معلناً التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بعد 33 يوما من العدوان الصهيوني الغاشم.
كانت تلك لحظة ولادة جديدة وبداية معركة بناء وتنمية يقودها اللبنانيون لتأكيد سيادتهم وتماسكهم وقوة بأسهم تأكيداً للقاعدة الذهبية الجيش والشعب والمقاومة، وكان الوفد البحريني المتضامن جزء من تلك اللحظة الغامرة المفعمة بالأمل والسعيدة بالصمود والانتصار،
في مقال لاحق نتحدث عن فجر انتصار لبنان على الغطرسة والعدوان الصهيوني يوم الأثنين 14 أغسطس 2006.