DELMON POST LOGO

العديسة .. على خط النار

بقلم محمد حسن العرادي

استضافني الأخ والصديق العزيز الدكتور حبيب رمال في منزل أسرته الذي يقع على خط النار في قرية العديسة اللبنانية الجنوبية الرابضة على حدود فلسطين، تحرسها بمحبة وحنان وترقب المارين منها واليها بثقة في النصر مهما طال الزمان، كانت تلك الزيارة في بداية شهر يوليو 2006.
هناك في القرية الجميلة الصامدة سكنت خمسة أيام بلياليها، تجولت فيها وكحلت عيوني بمعالم وتضاريس أرض فلسطين المغتصبة أمام صمت أمة عربية تائهة، تمتد حدودها من البحر الى البحر الذي لا تزال أمواجه البشرية هادئة دون هياج حقيقي، لكن الصمت العربي في قرية العديسة اللبنانية من نوع آخر، صمت يشي بإنفجارات قادمة وحاسمة ستغير موازين القوى ويثبت بأن "اسرائيل" أوهن من بيت العنكبوت.
تنظر إلى فلسطين فتجدها مُحاطة بسياج حديدي مهين لمن يقبل به، لا تعرف من يحاصر من، الصهاينة يختبئون خلف المتاريس والسواتر الإسمنتية والترابية، والمقاومين يتربصون بهم بين الأشجار الواقفة بشموخ فلسطين وإباء لبنان، تمُد يدك في الهواء غاضباً وملوحاُ فينعكس ظل قبضتك على تراب فلسطين، تكاد تمسك قبضة من تُرابها الطاهر، لكنك سرعان ما تكتشف أن مسافة رمية الحجر التي تفصلك عن أرض فلسطين مُكبلة بالاتفاقيات المذلة والقرارات الدولية الظالمة التي فرضتها إرادة منحازة للمحتل.
كل شيء في شمال فلسطين واضح ومبيّن، من جنوب لبنان تُشاهد مزارعها وجبالها وطُرقاتها رؤي العين، تأسرك بلونها الأخضر المُنتشر فوق أرضها المنبسطة والمنخفضة والمرتفعة، تضاريس متداخلة تتكلم اللغة العربية الفصيحة، أرض رويت بالدم العربي الذي اختلط بالتراب فتَحوَل إلى اللونِ الأحمرِ القاني، يعتصُر قلبُك الألم والحزن، وتذرُف عُيونك الدمُوع وأنت تُشاهد المستوطنات الصهيونية القريبة تسكن في أمن وأمان وتلوث أرض فلسطين دونحسيب او رقيب ، بينما دوريات الشرطة وجنود الإحتلال يتنقلون في السيارات المصفحة، بعضهم يمسك البنادق الرشاشة الموجهة إلى صدور وظهور اللبنانيين.
في الظاهر يسير كل شيء بشكل أعتيادي، هدوء تام، لكن أغلبنا لم يكن يعلم أن باطن الأرض الجنوبية يعج بالأنفاق والكمائن، ويمور بالعنفوان على وقع خطط المقاومين ذو البلس الشديد الذين يرتقبون اللحظة المناسبة لإقتناص وأسر عدد من الصهاينة لاتمام صفقة تبادل الرهائن وتحرير الأسرى الفلسطينيين واللبنانيين والعرب في السجون الصهيونية.
بمعية الأخ حبيب قمنا بأكثر من جولة على الحدود الفلسطينية وزرنا أهم المقامات بقرية العديسة، مقام الخضر (ع) ومقام النبي عويضة فوق التلة التي تحرسها قوات اليونيفيل - يتم تقسيم المقام مناصفة بين الجانبين الفلسطيني المحتل واللبناني الصامد، في الجهة المحتلة يتوافد الصهاينة لزيارة المقام الذي يطلقون عليه أسم يهودي يخصهم تحت حراسة الحراب والبنادق الصهيونية، وعلى الجانب اللبناني يقترب أبناء الجنوب وزوارهم بكل ثقة غير عابئين بالعيون الجاحظة التي يرمقهم بها جنود الإحتلال المدججين بالسلاح ومتابعة القوات الدولية، هناك تُشاهد بعض نُقاط رجال المقاومة وهم يحرسون جنوب لبنان ليل نهار مستعدين وجاهزين للتعامل مع اي طارئ بكل ثقة واقتدار وتضحية.
حين مررنا على بوابة فاطمة التي كانت آخر نقطة عبور إنسحب منها المحتل الصهيوني مهزوماً ومندحراً يجر اذيال الخيبة في 25 مايو 2000 بعد عقدين من الاحتلال، رأينا في عُيون المُقاومين الصبر والجلد وهم يواجهون الآلة الصهيونية العسكرية بكل صلفها وجبروتها وهزيمتها النفسية، لاتفصل بين المقاومين والمحتلين سوى أمتار قليلة من التحدي، وعلى مشارف بوابة فاطمة تنتصب ثلاثة تماثيل بشعة تمثل قادة العدو الصهيوني المغتصب بينهم المقبور أرييل شارون، حيث يتاح للراغبين من الزوار على الجهة اللبنانية رجمهم بالحجارة، رغم إن البوابة مرصودة بالكاميرات وأجهزة التجسس الصهيونية على مدار الساعة.
مرت الأيام سريعاً وأنا أتنفس هواء فلسطين الطاهر وأتنقل بين أراضي قرية العديسة العزيزة على النفس والوجدان، أشاهد النادي الحسيني والأهالي يحتفلون فيه بالمناسبات الدينية والاجتماعية وأتمتع بمشاهدة المزارع المنتشرة في مختلف مناطق القرية وهي توفر لأهلها ما لذ وطاب من الخضروات والمنتجات الزراعية.
نجلس إلى جانب الحاج ابو حبيب في دكانه الصغير والمتواضع الذي يقع على سفح المنزل فيمُر أمامنا عدد من الشباب، يشير عليّ صديقي حبيب، هؤلاء من الحركة (حركة امل) وحين تمر مجموعة أخرى يهمس في أذني هؤلاء من الحزب (حزب الله)، بالنسبة لي لم أكن أجد فرقاً بين المجموعات المتخفزة المارة امامنا، بعضهم كان مسلحاً وبعضهم لايبدون كذلك ، لكن صاحبي يعرفهم ويميز بينهم من خلال التجربة والمعرفة.
انقضي أسبوع كامل من البهجة والفرحة والألم والحسرة في زيارة العديسة ومشاهدة أراضي فلسطين المحتلة، كانت الحاجة أم حبيب وعدد من إخواته يعتنون بي أشد العناية، ومع أخوه المدرس ونسيبه المصري كنا نخوض عدة نقاشات في الشأن العام اللبناني والعربي، فلا أجد بيننا سوى اختلافات بسيطة جداً لا تكاد تُذكر، كنت أشعر بإنني أعيش واحدة من أجمل لحظات العُمر التي مرت سريعاً جداً، وحين انتهت فترة الزيارة وعدنا الى بيروت إستعداداً للعودة إلى البحرين كان قلبي ينقبض، كنت أشعر بحنين غريب ورابط قوي مع تلك الأرض التي تلتحم بتراب فلسطين، صوت بداخلي كان يشدني للبقاء هناك ولكن!
كان أسبوعاً مفعماً بالحيوية والراحة والأمل الذي يبرق في عيون الجنوبيين، وبعد إنقضاء فترة من الوقت غادرت مطار الشهيد رفيق الحريري في بيروت بتاريخ 7 يوليو 2006، وما أن وصلت الى البحرين بدى لي أن شيئاً مني قد فقد واستقر في جنوب لبنان، وما هي سوى أيام قليلة - خمسة أيام فقط - وإذا بالأخبار تتناقل قيام وحدات مقاتلة من المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان بأسر جنديين صهيونيين من على الطرقات القريبة التي كانت خارطتها ترتسم في قلبي وأنا أرمقها كلما مررنا الى جوار الأسوار الحديدية الشائكة التي تفصلنا عن فلسطين أرض الليمون والبرتقال والعزة والنضال.
منذ تلك اللحظة بدأت أتطلع للعودة وألوم نفسي لماذا لم أمدد الزيارة خمسة أيام أخرى لأكون إلى جانب اللبنانيين الذين احببتهم ومنحوني الدفئ والمحبة وشاركوني اللقمة والضحكة والهواء في قرية العديسة، كنت حينها رئيساً للجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني.
وهكذا بدأنا التخطيط لتشكيل وفد بحريني تضامني برئاسة المناضل الراحل المهندس عبدالرحمن النعيمي رحمه الله، يمثل الجمعيات السياسية وجمعية مقاومة التطبيع للقيام بزيارةه تضامنية لبيروت التي وصلناها ليلة وقف إطلاق النار مع العدو الصهيوني، وكأن الوفد البحريني كان بشارة خير ونصر، وتلك قصة أخرى تستحق أن أدونها وأرويها لكم في المقال التالي.