DELMON POST LOGO

هل تتلقف إيران رسائل السلام العربية ؟

بقلم محمد حسن العرادي

مخالفةً لجميع توقعات وتخرصات الصهاينة، جاءت نتائج قمة جدة للأمن والتنمية التي عُقدت في مدينة جدة يوم السبت 16 يوليو 2022 واستضافتها المملكة العربية السعودية برئاسة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وحضور الرئيس الامريكي وقادة دول مجلس التعاون والأردن ومصر والعراق.
هذا الإجتماع الذي روجت له وسائل الإعلام الصهيونية وعدد من مسئولي الدولة العنصرية (اسرائيل) بأنه سيكون خاتمة لمسلسل التطبيع في المنطقة، مدعية بأنه سيعلن إنخراط السعودية في اتفاقيات التطبيع التي وقعتها بعض الدول العربية، لكن النتائج جاءت مخيبة ومعاكسة لآمال الصهاينة وراعيهم الأمريكي.
لقد جاءت جميع كلمات القادة والمسئولين العرب المشاركين في المؤتمر مناصرة للحق الفلسطيني ومطالبة بتمكين الأشقاء الفلسطينيين من تشكيل دولتهم المستقلة ذات السيادة في حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، كما جرى التأكيد على التمسك بالمبادرة العربية التي أقرتها قمة بيروت عام 2002 والتي تنص على عرض الأرض مقابل السلام، وليس كما يطالب الصهاينة بالاعتراف بهم كدولة طيعية في المنطقة مقابل الاقتصاد والأمن.
ورغم تحفظنا على سقف المبادرة المنخفض، وتمسكنا بتحرير فلسطين كاملة من البحر الى النهر والإعتراف بالقدس عاصمة موحدة وأبدية للدولة الفلسطينية على كامل التراب الفلسطيني بمساحته المكونة من 27 ألف كيلومتر مربع، إلا إننا نعتقد بأن موقف القادة العرب كان شوكة في عيون (اسرائيل) المغتصبة للحقوق العربية وراعيتها الولايات المتحدة الأمريكية، التي تتعهد بمناسبة وغير مناسبة بضمان تفوق دولة الأبرتهايد العنصرية على جميع الدول العربية، وتغدق عليها الهبات والمساعدات وتقدم لها الغطاء السياسي وتمدها بالسلاح المتفوق الفتاك.
وعلى المقلب الآخر فقد تبخر في الهواء مشروع وحُلم "حلف الناتو العربي" الذي بشرت به دولة الأبرتهايد الصهيونية، وصفقت له بعض الأقلام المأجورة أو المنخدعة بالدعاية الصهيونية المغرضة الهادفة الى قلب المعادلة في المنطقة، وإعتبار (اسرائيل) صديقاً وأنهاء العداء التاريخي والتوقف عن اعتبارها دولة محتلة ومغتصبة لأرض فلسطين العربية، واستبدال العداء لها بالعداء للجارة ايران وتأزيم العلاقة بينها وبين الأمة العربية.
وها هي قمة جدة للأمن والتنمية تتجاوز هذه الأفكار الشيطانية التي حاول الصهاينة زرعها في المنطقة وترفضها جملةً وتفصيلاً، لتعيد الأمل بتصحيح الأخطاء التي أُرتكبت تحت ضغط الإدارة الأمريكية السابقة - ادارة ترامب - والتي ادت الى توقيع بعض إتفاقيات التطبيع ضمن ما عرف بصفقة القرن البائسة، لكن قمة جدة للامت والتنمية رفضت حتى مجرد الإشارة إلى هذا المشروع البائس حين تجاهلت جميع الدول العربية المشاركة في القمة الدعوات الصهيونية لمناقشة ذلك، وأعلنت بصوت موحد ومسموع بأنها لن تكون جزءاً من أي تحالف سياسي او عسكري يستهدف التهديد أو الاعلان بالحرب على إيران أو أي من الدول المجاورة.
ثم جاءت النكسة الكبرى للمشروع الأمريكي حين أعلن ولي العهد السعودي بأن الرياض قد إستنفذت قدرتها على زيادة إنتاج النفط، وبأنها ليست في وارد وربما (لم تعد راغبة) في زيادة كميات النفط أو الغاز التي تنتجها وتُصدرها للأسواق العالمية، وفي السياق ذاته جرى التأكيد على موقف الحياد الذي إتخذته السعودية والدول العربية من الحرب الروسية الأوكرانية والنأي بالنفس عن أن يكون العرب بيدقاً أو ترساً أو درعاً في حرب أمريكا ومحاولاتها المستمرة للهيمنة على العالم وفرض سياسة القطب الواحد البغيضة التي باتت تترنح على وقع الضربات الروسية لهذه الهيبة المصطنعة.
لقد أظهرت السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز والادارة الصُلبة لولي العهد سمو الأمير محمد بن سلمان حسماً وحزماً واضحاً وإلتزاماً مؤكداً بقضايا ومصالح الأمتين العربية والإسلامية، كما أعطت للقادة العرب ما يستحقونه من حفاوة الإستقبال والترحيب من خلال الحضور الرسمي الذي مثله سمو ولي العهد السعودي وهو يستقبلهم على ارض المطار واحداً إثر الآخر، في مقابل الإستقبال الباهت والمتواضع الذي لقيه الرئيس الأمريكي مع أقل ما يمكن من درجات البروتوكول والتمثيل الديبلوماسي وانتظاره على بوابة القصر الملكي.
وعلى ذات الطريق تم كسر شوكة الرئيس الأمريكي وغطرسته الكاذبة والمخادعة وادعائه الالتزام بحقوق الإنسان وما تلى ذلك من حديث طويل عن عدم رغبته بمصافحة ولي العهد السعودي، فاذا به يتنازل عن كبريائه وغروره ويمد يده صاغراُ للسلام والمصافحة على الأمير محمد بن سلمان الذي ظهر واثقاً متوثباً على عكس الرئيس الأمريكي العجوز .
وحين جاءت لحظة الحقيقة التي تحاشاها بايدن ترأس الأمير محمد بن سلمان الوفد السعودي للمفاوضات الثنائية في وجه الرئيس الامريكي الذي اسقط في يديه ولم يجد بدا من تقديم الإعتراف والاحترام لهذا الأمير الشاب المتحمس لقيادة التغيير في نمط وآلية العلاقة العربية الأمريكية وفكها وإعادة تركيبها وفق اسس جديدة قائمة على الاحترام المتبادل بدل التبعية العمياء.
ومرة اخرى يتأكد الجميع بأننا امام عهد ونمط جديد من القيادات العربية الشابة حين ترأس الأمير محمد بن سلمان جلسات مؤتمر قمة جدة للأمن والتنمية بكل كفاءة واقتدار ولم يتاح للرئيس الأمريكي الفرصة لفرض إرادته ومشيئته على القادة العرب، بل أُجبر على الاستماع الى خطاب غير تقليدي وغير معتاد، خطابٍ عربي تمسك بالثوابت العربية والحق التاريخي في فلسطين وأصر على التعامل وفق المصالح وليس وفق منطق الإملاءات التي اعتادها الكابوي الأمريكي.
وإذا كان الرئيس الأمريكي قد حظي بثلاثة أيام من الحفاوة في الإستقبال والإحتفال، وهو يصول ويجول متنقلاً في الأراضي الفلسطينية المحتلة من قبل الصهاينة مجاهراً بولاءه الكامل للصهيونية العالمية معتمر القلنسوة اليهودية ومؤكداً مقولته البائسة (ليس ضرورياً أن تكون يهودياً لتكون صهيونياً) وهو يتباهى بعلاقته الخاصة مع دولة الأبرتهايد العنصرية مانحاً إياهم مليارات الدولارات على شكل مساعدات وهبات هائلة ومستفزة، فإن تخصيص 300 مليون دولار لدعم السلطة الفلسطينية على شكل مساعدات صحية للمستشفيات وإغاثية لمنظمة الأونروا بقصد ذر الرماد في العيون اثناء الزيارة البروتوكولية القصيرة لمدينة بيت لحم مهد المسيح والتي لم تتجاوز الساعة من الزمن، لم تقنع احداً بعدالته أو اقتناعه بحل الدولتين الذي يدعيه كاذباً ومنافقاً.
وبالعودة إلى نتائج هذه القمة التي علق عليها أحد المسئولين السعوديين بتغريدة (طار في الهوا) تيمناً بالأغنية المصرية - طار في الهواء شاشي وأنت متدراشي التي قدمها الشاعر الشعبي المبدع صلاح جاهين في أوبريت الليلة الكبيرة من الحان الموسيقار سيد مكاوي - فإن الرئيس الأمريكي قد خرج من هذه القمة بخفي حنين فلا نفط ولا غاز ولا مزيداً من التطبيع ولا حلف عسكري مع (اسرائيل) ضد إيران أو غيرها، بل تمسك واضح بمبادى وقرارات الأمم المتحدة وتأكيداً على إحترام سيادة الدول وحق تقرير المصير للفلسطينين والإبتعاد عن الأحلاف العسكرية والاشتراك في الاصطفافات السياسية ضد روسيا أو غيرها.
لقد حفظ قادتنا الدرس عن ظهر قلب، وأيقنوا بأن المستقبل بحاجة إلى تثبيت سياسة ونهجاً مختلفاً قائما على تبادل المصالح وإن عهد الدفع بدون مقابل قد ولى إلى غير رجعة، وأنهم بحاجة للأمن والإستقرار في المنطقة ومعالجة أثار الحروب المدمرة التي أشعلتها أمريكا في المنطقة وأسقطت خلالها الدول وضربت الحضارات انتهكت الحدود، وهكذا فإن موقف القمة كان مطالباً وداعياً لحل الملفات الساخنة في المنطقة العربية في فلسطين، العراق، سوريا، ليبيا واليمن وغيرها بشكل واضح، وهو ما لم يتوقعه او ينتظره بايدن ابداً .
نصل إلى بيت القصيد وهو أن الدول العربية العشر المشاركة في قمة جدة للأمن والتنمية قد وجهت رسالة سلام ومحبة إلى جمهورية إيران الإسلامية، وقد آن للإيرانيين أن يستقبلوا الإشارات الإيجابية التي أطلقها القادة العرب بالتفاعل، خاصة بعد ان رفض القادة الإنضمام لأي حلف عسكري ضد إيران وقالوا بالفم المليان بأنهم غير معنيين بتنفيذ السياسة العدائية للكيان الصهيوني الذي يرغب في المزيد من التوتر والإشتباك السياسي بين العرب وجارتهم المسلمة إيران.
إننا نطالب إيران بأن تتلقف هذه المواقف العربية الإيجابية وأن تبدي المزيد من حسن النوايا، وتبادر إلى التقاط الفرصة التاريخية لتعزيز العلاقة مع الدول العربية والخليجية منها على وجه الخصوص، لقد آن لايران أن تقوم بالمزيد من الجهود لتحقيق المصالحة والتسوية مع السعودية ودول مجلس التعاون، وأن تستكمل مباحثات السلام بينها وبين السعودية والتي يمكن أن تشمل بقية دول المجلس، بما في ذلك إعادة العلاقات الديبلوماسية الأخوية و تشغيل الخطوط الجوية والبحرية المباشرة بين ضفتي الخليج العربي، حتى تتمكن شعوب المنطقة من العيش بسلام وتواصل بعيداً عن التهديدات بالحرب أو التدخل في شئون الغير، فهل تتلقف إيران المبادرة، ونشاهد الوفود السياسية تكسر الحدود والجمود لتحقيق السلام والاستقرار.