DELMON POST LOGO

جرة قلم - 1

بقلم : محمد حسن العرادي
بماذا توحي لكم عبارة "جرة قلم" التي نسمع عنها في الافلام والمسلسلات، إنها العبارة السحرية التي تشير إلى أن شخصاً ما أو جهة ما تستطيع أن تغير الواقع بجرة قلم، كأن تلغي حقاً دستورياً أصيلاً أو تحجب حقاً قانونياً جليلاً لشخص لايتفق معها في الفكر والرؤى وربما يكون السبب مجرد كيدية سياسية!
نعم في بلادنا وبجرة قلم واحدة يمكن تغيير القوانين وخفض سقف الحريات إلى مقاسات ضيقة ومؤذية، لا تراعي سمعة البحرين وتاريخها المتميز والسباق منذ نهايات القرن 19 وبدايات القرن 20 في مجالات العمل الأهلي الخيري والمجتمعي وإذا أردنا أن نفصل أكثر في هذا ونُذّكر بريادة البحرين، سنجد أن هناك تاريخاً ناصعاً يمكن أن نكتب عنه الكثير !
نعم "بجرة قلم" واحدة ألغى مجلس النواب المُطيع في الفصل التشريعي الرابع (2014-2018) حق آلاف المواطنين من الترشح لمجالس إدارات الجمعيات الأهلية والخيرية والنسائية والأندية والمراكز الشبابية الذي إستمر مُتاحاً لجميع المواطنين على مدى عقود من الزمن وحتى قبل قيام الدولة ونيل الاستقلال.
"بجرة قلم" وربما بإيعازٍ من قبل جهةٍ ما إتخذ السادة والسيدات أعضاء مجلس النواب الكرام، عن جهالة أو تجاهل قراراً يرقى إلى مرتبة الإعدام المعنوي بحق آلاف المواطنين المتمتعين بكافة حقوقهم المدنية والدستورية حتى تلك اللحظة، يحرمهم من جزء كبير من حقوقهم الدستورية والحياتية، دون أن يتاح لهؤلاء حق التقاضي والدفاع عن أنفسهم ودون أن يتم مشاورتهم أو التحاور معهم كما تنص القوانين والمواثيق المتعارف عليها، وقد تستغربون حين تعرفون بأن بعض النواب صوتوا بالموافقة دون أن يُقدروا أو يعرفوا حجم الآثار السيئة التي ستترتب على تصويتهم البائس، وربما ضغط بعضهم على الزر الموجود أمامه بالموافقة وهو يشعر بالنُعاس والملل في نهاية أخر دور من الفصل التشريعي الرابع، خاصة أولئك النواب الذين كانوا على ثقة بأنهم لن يعودوا إلى مقاعدهم مرة أخرى، وهذه لعمري مثبلة ابتليت بها البحرين ومشروعها الإصلاحي الطموح لتجذير العمل الديمقراطي وتعزيز التنمية المستدامة.
بعض النواب الكرام، قدموا لأنفسهم تفسيراً مهيناً معتقدين بأنهم أدوا دوراً وطنياً عظيماً، لكن ضميرهم قد يؤنبهم في المستقبل حين يقعون في المحظور ويعانون من مواقف مشابهة تسببت فيها القوانين والتعديلات التي قاموا بسنها وتشريعها، وهي حالات ستأتي في القادم من الأيام لامحالة حتى وإن تأخرت قليلاً، اذا بقي الوضع على ما هو عليه.
لقد برر هؤلاء النواب لأنفسهم التصويت بالموافقة على هذه القوانين المجحفة بأن ذلك سيتيح الفرصة للجهات المعنية بإقصاء بعض النشطاء والساسة المشاغبين من الحياة العامة - من أجل مصلحة الوطن - وهذه العبارة (مصلحة الوطن) التي أخذ يلوكها من يعرف ومن يهرف بما لا يعرف وعينه بصفاقة على منصب أو فتات قد يُرمى إليه وقد يرمى لغيره ويموت هو حسرة وكمداً وغيرة نتيجة ذلك.
لكن البعض الآخر ممن صوتوا بالتعديلات المصادرة للحريات كان يعي ما يفعله تماماً، وهو إتخذ قراره عمداً مع سبق الإصرار والترصد كي يحرم عدداً كبيراً ممن يختلف معهم من الكفاءات المجتمعية والكوادر الإدارية صاحبة الباع الكبير والطويل في مجال الخدمة المجتمعية من ادوارهم، رغم ان احداً لا يستطيع المزايدة على عطاء هؤلاء وتفانيهم في خدمة الوطن والمواطنين والخبرات والمعرفة التي ساهموا بها سطروها طيلة عقود من الزمن، لكن الحقد والضغينة قد يكون هو ما دفع هذا البعض لاتخاذ قرارمنع النشطاء من حق الترشح لأي من مجالس الجمعيات والمؤسسات الأهلية والاندية الرياضية، لا لشيء سوى الخلاف السياسي والتباين الفكري، وربما نتيجة جهل هؤلاء المصوتين لأبجديات العمل الحقوقي والسياسي الذي يحتفي بالإختلاف باعتباره سبيلاً للبناء الإيجابي وتعزيزاً للتجربة الديمقراطية، الأمر الذي يوفر إطاراً داعماً ومعززاً من أجل ضمان مستقبلٍ يكون فيه العمل الأهلي المجتمعي رافداً ومسانداً للعمل الحكومي للنهوض بالدولة.
لقد صوت هؤلاء للتضييق والمنع والعزل السياسي غير عابئين بأهمية التنوع والتعدد بين التيارات السياسية، وربما لأغراض شخصية أو نتيجة انعدام خبرة العمل في الشأن العام أو ضحالة التفكير والأفق، متناسين أو جاهلين بكل ما هو مُثبت في المواثيق والعهود الدولية التي صَدَقتْ عليها مملكة البحرين وأصبحت نافذةً وتعلو على القوانين المحلية، ذلك أن الديمقراطيات العريقة تحمي حق الاختلاف وتصون حُرية الرأي وحقوق المواطنين الدستورية لأنها تعي بأنه لا يمكن أن يكون هناك إصلاح حقيقي بدون توفر حرية النقد والمسائلة الهادفة للبناء نحو الأفضل.
وهكذا يا سادتي الكرام، أقدم النواب الأفاضل بإضافة كلمة (والسياسية) على المادة رقم 43 من القانون رقم 21 لسنة 1989 وأنجزوا "بخفة متناهية" مهمة الإقصاء والعزل السياسي السيئة الصيت والسمعة والتي لا يفوقها سوءاً سوى قرارات الإجتثاث التي أتخذتها بعض الأنظمة الشمولية المغرقة في التخلف والرجعية.
لقد تُرجم قرارهم وتصويتهم ذلك فوراً من خلال صياغة وإصدار القانون رقم 36 لسنة 2018 الذي نص في المادة الأولى منه على (يُستبدَل بنص الفقرة الأولى من المادة (43) من قانون الجمعيات والأندية الاجتماعية والثقافية والهيئات الخاصة العاملة في ميدان الشباب والرياضة والمؤسسات الخاصة، الصادر بالمرسوم بقانون رقم (21) لسنة 1989، النص الآتي) :
"يُشترَط في عضو مجلس الإدارة أنْ يكون متمتعاً بكافة حقوقه المدنية والسياسية".
وهكذا بجرة قلم أضاف النواب الأشاوس كلمة (والسياسية) التي وسعت دائرة المشمولين بالاستثناء لتمس الحق العام لآلاف من المواطنين وتحرمهم من حق الترشح لمجالس ادارات الجمعيات الأهلية الخاضعة للقانون رقم 21 لسنة 1989.
جرة قلم تبدو بسيطة لكنها تسئ بشكل غير مسبوق للمشروع الإصلاحي لجلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه، والذي كان الراعي الأول للانفتاح بناء على ما امتلكه من حنكة وفكر حصيف ورؤية ثاقبة ترجمت في ميثاق العمل الوطني الذي اخرج البلاد من تداعيات أزمة التسعينات، وما منحته القوانين والأنظمة من حقوق متميزة للشخصية الإعتبارية الخاصة بالجمعيات الأهلية والمدنية، والحماية والدعم المطلق والمحصن لعملها بموجب مواد الدستور وكافة المواثيق والعهود الدولية التي التزمت بها المملكة.
وهكذا "وبجرة قلم" حُرم كل من إنتمى في يوم من الأيام لأي من الجمعيات السياسية المنحلةبحكم محكمة (جمعية العمل الاسلامي - امل، جمعية الوفاق الإسلامية وجمعية العمل الوطني الديمقراطي - وعد) من حق دستوري أساسي، يتمثل في الترشح لمجالس إدارات الجمعيات الأهلية والخيرية والاندية والمراكز الشبابية ومن في حكمهم من المؤسسات والجمعيات المرخصة بموجب هذا القانون، والحُكم سينسحب حتماً على كافة المواطنين الذين إنتموا أو سينتمون في المستقبل لأي من الجمعيات السياسية القائمة - موالاة ومعارضة - التي يمكن أن تتعرض لأحكام الحل لسبب أو لآخر مهما كان مختلفاً عليه.
وهُنا يجب علينا مُلاحظة أن التعديل لم ينُص صراحة على تطبيق القانون بأثر رجعي، كما أن أحكام الحل الصادرة بحق الجمعيات السياسية - ذات الشخصيات الاعتبارية - لم تُشر إلى منع المنتمين للجمعيات السياسية من حق الترشح للجمعيات الأهلية، بل إن التعديل الخاص بمباشرة الحقوق السياسية إقتصر على منع الترشح لانتخابات مجلس النواب فقط، لكن كما يقال أنت تريد وأنا أريد ومن بيده السلطة يفعل ما يريد.
وهكذا وجدنا أن كلمة واحدة ألغت "بجرة قلم" تاريخاً طويلاً وفاعلاً من العمل الأهلي في البحرين يمتد لعشرات السنين دون النظر إلى مقدار العطاء الذي قدمه هؤلاء المواطنين وحتى قبل الإنتماء إلى الجمعيات السياسية التي تم تأسيسها في بداية عهد الاصلاح عام 2001 وفق القانون 1989 ذاته قبل أن يكون هناك قانوناً خاصاً بالجمعيات السياسية والذي جاء متأخراً وفق القانون رقم 26 لسنة 2005 والتي تنص المادة رقم (1) منه على
" للمواطنين - رجالاً ونساءً - حق تكوين الجمعيات السياسية ، ولكل منهم الحق في الانضمام لأي منها، وذلك طبقاً لأحكام هذا القانون".
ونظراً لتأثير هذه التعديلات بشكل سلبي على حُرية العمل الأهلي والإجتماعي والثقافي والرياضي والخيري والنسائي والشبابي وكل ما يتعلق بمؤسسات المجتمع المدني، ويؤثر على سمعة البحرين أمام برامج الأمم المتحدة وخاصة المتعلقة بالتنمية المستدامة والتي تؤسس وتؤكد على الشراكة المجتمعية.
إننا نرفع الصوت عالياً للمطالبة بإعادة النظر في هذه التعديلات المعيقة للعمل الأهلي، رحمة بالناس وفسحاً لمجال تعزيز الشراكة ودعماً للمسئولية المجتمعية، خاصة وأن المستهدفين بهذه التعديلات لم يأتوا بجريمة ولم يعرضوا على محاكمة توجه اليهم التهم، فهل تصل مطالباتنا إلى آذان المعنيين بالأمر، ذلك ما نتمناه وينتظره الكثير من المواطنين بعد أن فُرغت الجمعيات الأهلية من كوادرها وخبراتها.