DELMON POST LOGO

هل انفرط عقد البيت الشيعي العراقي؟

الكاتب

بقلم : عيسى سيار

لقد حذرنا فى الجزء الأول من مقالنا من انفراط عقد البيت الشيعي العراقي والذي نشرناه بتاريخ 17/8/2022، وقد اسسنا وبنينا ما ذهبنا اليه على العديد من المعطيات والمؤشرات والتراكمات، والذي جري يوم الأمس بعد ما أعلن السيد مقتدى الصدر اعتزاله العمل السياسي من مواجهات بالذخيرة الحية فى المنطقة الخضراء الشديدة التحصين، والتي هى أشبه بحرب الشوارع بين الاخوة الأعداء: التيار والإطار والجيش والحشد الشعبي وغيرها من فصائل مسلحة وهي الأعنف منذ الغزو الأمريكي للعراق، وإن قرار الحكومة بمنع التجول وتعطيل الدوام الرسمي يذهب بإتجاه ما حذرنا منه ويدلل على انزلاق خطير فى الوضع العراقي قد لا يحمد عقباه، كما قمنا في الجزء الأول من مقالنا بتوصيف أسباب ومآلات الوضع السياسي فى العراق وطرحنا فى نهايته العديد من التساؤلات التي تطرح نفسها فى ظل هذه الظروف الدقيقة التي يمر بها العراق وهى: هل ما يحصل فى العراق هو صراع بين من يمثل أو وكيل النظام الإيراني ومن يعارض الوجود الإيراني السافر فى العراق؟ هل هو صراع سياسي وجودي وحقيقي من أجل مصلحة البلد ام تصفية حسابات حزبية وشخصية جديدة قديمة بين أطراف المكون الشيعي تم تأجيلها لحسابات معينة تطرقنا لها فى الجزء الأول؟ وهل ما يطرحه التيار الصدري والذي كان شريكا أصيلا فى العملية السياسية منذ الانتخابات الأولي، يمثل انتفاضة حقيقية على الفساد المتوحش والمستشري فى كل مفاصل الدولة وأيضا على الأوضاع السياسية والمعيشة الجد متردية؟ وهل هو طلاقا بائنا مع النظام الإيراني من قبل التيار الصدري أم تحركا لذر الرماد فى العيون وتخديرا جديدا للشعب العراقي بعد أن بلغ السيل الزبى وأصبحت المعيشة لا تطاق بالنسبة للسواد الأعظم من الشعب العراقي؟ وهل التحرك الصدري عمل استباقي لإحباط اي ثورة شعبية جديدة باتت تلوح في الأفق على غرار ثورة تشرين 2019 والتي وأدتها كل الأحزاب التقليدية لأنها تهدد مصالحها الضيقة؟ ولماذا قام التيار بتحركه الآن والذي كان ومازال شريكا أصيلا فى العملية السياسية منذ بدايتها وبالتالي شريكا فى إنتاج هذه الأوضاع السيئة؟
منذ الغزو الأمريكي للعراق فى 2003 والإطاحة بنظام حكم البعث فى العراق، لم يشهد البلد استقرار سياسيا ونموا اقتصاديا يذكر حيث مازال البلد يتخبط فى مساره ونهجه السياسي والاقتصادي والمعيشي بسبب التجاذبات الشديدة التعقيد والحساسية بين فسيفساء المكونات العراقية الكثيرة والمتنوعة مذهبيا وعرقيا ومناطقيا أضف إلى ذلك التدخلات الإقليمية الفجة فى الشأن العراقي، مما أدي إلى تفشي الفساد بمختلف ألوانه وأشكاله، فبعد سقوط نظام البعث تشظي العراق سياسيا وعرقيا ومذهبيا بسبب الاصطفافات الطائفية والمناطقية والتي تتحرك معظمها من منطلق حزبي ضيق وبأجندات خارجية حيث أصبح العراق ساحة للاحتراب السياسي والعسكري بالوكالة فى ظل غياب او تغييب للروح والاجندات الوطنية وأصبحت المصلحة الحزبية والمذهبية تعلو على مصلحة الوطن وضرب الفساد أطنابه فى كل نواحي الوطن وكل مناحي حياة العراقين، وأصبح العراق أقرب إلى الدولة الفاشلة ومن الدول المتصدرة قائمة الدول الأكثر فسادا حسب تقارير منظمة الشفافية الدولية خلال السنوات التي أعقبت الغزو الأمريكي للعراق، وبات ما يقرب من نصف العراقين يعيشون تحت خط الفقر بالرغم من ان العراق يعتبر رابع دولة منتجة للنفط عالميا والثانية عربيا!!؟؟.
لقد عمدت الطبقة السياسية التقليدية بمختلف مكوناتها والتي جاءت إلى سدة الحكم تحت مظلة القوات الأمريكية إلى وأد اي تحركات جماهيرية تسعي إلى إنتاج نظام سياسي ديمقراطي وطني بإمتياز، كما حصل لثورة شباب تشرين عام 2019 حيث تكالبت عليها تلك القوي السياسية بكل أطيافها من أجل القضاء على الثورة لأنه ليس من مصلحتها أن يقوم فى العراق نظام عراقي وطني قائم على الوطنية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بعيدا عن الهيمنة الحزبية والمذهبية ذات الامتدادات والولاءات الخارجية. ان النخبة الحاكمة الحالية وبعد حوالي عقدين من الزمن فشلت فشلا ذريعا فى إنتاج نظام وطني ديمقراطي سيد نفسه وما حصل بالأمس فى المنطقة الخضراء يدلل على ذلك، وأثبتت تلك النخبة بأنها لم تدخل البلد من أجل عراق ديمقراطي حر يقوم الحكم فيه على العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة، بل دخلت بعد الغزو الأمريكي كما يقول الواقع والوقائع والشواهد من أجل اقتسام الكعكة السياسية والغنائم المادية وترك العراق ساحة صراع بالوكالة لقوي إقليمية، وقضايا الفساد التي تزكم الأنوف خير شاهد ودليل على ذلك والتي آخرها وليس أخيرها فضيحة فساد مصرف الرافدين وشركة بوابة عشتار وهي شركة حديثة التأسيس ومشبوهة، الفضيحة التي هزت الرأي العام العراقي والتي يقف خلفها روؤس كبيرة، والمبلغ التي قضت به المحكمة لصالح شركة عشتار كتعويض عن فسخ العقد دون مبررات، فى قضية الفساد هذه 600 مليون دولار أمريكي فقط!.
ان الوضع العراقي أصبح قاب قوسين او أدني قريبا من الوضع السياسي اللبناني والمتمثل فى محاصصة طائفية ومصالح حزبية وتقسيم العراق إلى عزب واقطاعيات وملكيات خاصة، حيث كل فصيل او تيار او حزب له جناح سياسي وآخر عسكري وبالتالي أصبح العراق اقرب إلى الدويلات التي تشرف عليها حكومة مركزية "لا تهش ولا تنش" او الدولة المليشياوية كما هو حال لبنان، وأصبح الحشد الشعبي العراقي جيشا متكامل الأركان وموازيا للجيش العراقي وهو فى تطور متسارع، حيث يعد نسخة عن الحرس الثوري الإيراني، له أهداف معلنة وهي الدفاع عن العراق وسيادته وأخري خفية تتمثل فى توفير الدعم اللوجستي للحرس الثوري الإيراني محليا واقليميا والشواهد على ذلك كثيرة.
اعتقد ان ما يحصل فى العراق حاليا هو صراع كسر عظم بين اطراف المكون الشيعي والذي هو الحاكم الفعلي فى العراق بعد خروج المحتل الأمريكي وذلك من أجل الهيمنة على الوضع السياسي والحصول على المزيد من المصالح والنفوذ الحزبي والمناصب والثروة وان كان فى عناوينه المعلنة هو صراع من أجل مصلحة الوطن ومن أجل تصحيح المسار السياسي ولكن فى باطنه صراع داخل البيت الشيعي على اقتسام الكعكة السياسية ومنافعها المادية.
فى تقديري ان عقد البيت الشيعي لم ينفرط بعد، لأن هذا البيت يمتاز بالولائية الدينية الصارمة والمنضبطة وفى نهاية المطاف لها القول الفصل، ولكن ما يحصل الآن هو صراع من أجل التسيد السياسي، وهناك كما اعتقد احتمال وارد وهو إن لم تقدم تنازلات من الطرفين فقد ينفلت العقال وينفرط عقد البيت الشيعي العراقي، فالذي حصل بالامس من احداث دامية قد يخرج الوضع عن السطرة ويدخل العراق فى أتون حرب أهلية ستكون عالية الكلفة والخاسر الأكبر فيها الشعب العراقي.
أعتقد إن التيار الصدري قد ضاق ذرعا بتصرفات خصمه اللدود العدائية، حزب الدعوة بقيادة نوري المالكي حليف النظام الإيراني، خاصة بعد التسريبات الصوتية الأخيرة لنوري المالكي والتي تذهب إلى التخلص من السيد مقتدى الصدر لانه يشكل عائقا وعقبة كأداء أمام طموحات المالكي السياسية، لذا فإن إختيار التيار الصدري توقيت تحركاته مع دخول شهر محرم الحرام له دلالات لا يخطئها البصر ولا البصيرة، حيث رفعت خلالها شعارات تصحيح المسار السياسي من خلال انتخابات مبكرة ورفع الظلم الواقع على العراقين ومحاربة الفساد ومحاكمة الفاسدين والظلمة، كما هي مباديء ثورة الإمام الحسين عليه السلام وهي رد بليغ على تسريبات المالكي وايضا على استخدم الإطار التنسيقي الثلث المعطل لإفشال مشروع التيار الصدري الإصلاحي فى تشكيل حكومة أغلبية. ولكن هل حراك التيار الصدري جادا ووطنيا عابرا للحزب والطائفة؟ وهل تتحقق الشعارات التي رفعها التيار على أرض الواقع السياسي العراقي!؟ وهل الفوضي السياسية التي يعيشها العراق خلاقة أم العكس؟ وإلى أين يتجه العراق بعد التوترات والاشتباكات واستعراض القوة بين مكونات البيت الشيعي العراقي؟ وما هو المطلوب من الشعب العراقي لكي يحقق أهدافه فى بناء عراق ديمقراطي حر وأبي بعيدا عن المحاصصة الطائفية والحزبية والمناطقية والولاءات الخارجية؟